قصائد كارين بوي .. شاعرة سويدية \ ترجمة وتقديم علي ذرب

في أول زيارة لي  لغوتنبيرغ, اخذني صديق الى مكتبة المدينة وحين وصلنا الى هناك أشار نحو تمثال مجاور للمبنى  وسألني هل تعرف لمن ذلك التمثال ؟ ثم أخبرني انه لشاعرة تُدعى كارين بوي .

وبعد اطلاعي على شعر هذه الشاعرة صاحبة الدم المجنون والرؤى الغريبة استذكرتُ ذلك الوقت الذي استغرقه مني تمثالها للتأمل فيه وفهمت أنها هي من كانت تقف في تمثالها المصنوع من البرونز بقاعدته الصغيرة, قريبة من الأرض والمدينة بأكملها تحت أنظارها .

عند وقوفك أمامها توقع أنها ستتحدث اليك في أية لحظة وتخبرك أن ما تشعر به أنت الآن من سحر وأنت تراها مغلفة بالبرونز انما هو سحر روحها البعيدة أو هو هيبة القبر وعليك أن تتوقع أيضا أنها ستصرخ بك, قائلة لا شيء جميل فيما تراه فما زال الجمال على جلدي والموت في أعماقي وانني محال أقف هكذا كي أبقى أتلقف الى الابد الضباب والثلج والنظرات, سأغادر ذات يوم, سأعود الى موتي الى كلمتي الأخيرة .

موت كارين الغريب يجعلك لا تؤمن بيوم محدد لولادتها أو موتها, اي انها وُلدت بيوم كذا وماتت بيوم كذا . انتحارها ازال الحدود وجعل كل من موتها وحياتها خليطا واحدا .

هكذا تنسحب قبل حلول الليل خارج حدود المدينة الى الغابة بعد تناولها لكمية حبوب منومة, لا شك انها كانت تدرك تماما أن تلك الكمية كانت كافية لأبادتها, وبعد أيام يُعثر عليها ميتة فوق صخرة . ألهذا الحد كان العالم قاسيا حتى انها اختارت شيئا لا نتوقع منه الرحمة لتموت في فضاءه بهدوء بعيدا عن كل شيء .

كارين الشاعرة والروائية والمترجمة والمناضلة الكبيرة من أجل الحقوق والحريات .

تنحدر من عائلة ثرية حيث والدها مهندس مدني ووالدتها ناشطة حقوقية في قضايا المرأة والسياسة, كلاهما من عائلتين ثريتين .

ترعرعت بوي في ستوكهولم حيث انتقلت اليها مع عائلتها وهي بعمر التاسعة, هناك أظهرت مهارة في المدرسة في تلقيها العلوم والأهم هو أنها وجدت من بين زميلاتها من يشاركها حب الأدب والاطلاع عليه . حينذاك كانت ترى نفسها مثالية الى حد بعيد حيث كل شيء في متناول يديها, تتلقى المعرفة والرعاية من الطرفين العائلة والمدرسة قبل أن يتحول ذلك كله الى احساس بأنها ملعونة مع بداية استحواذ الشعر على كل مفصل من حياتها .

بعد تخرجها من مدرستها في ستوكهولم 1920 عملت كمعلمة لمدة عام واحد ثم ذهبت الى جامعة اوبسالا لدراسة اللغة الاغريقية والنوردية وكذلك تاريخ الأدب ومن الواضح أنها رغبت بقراءة الأدب الاغريقي بلغته الاصلية .

عام 1922 أصدرت كتباها الأول بعنوان الغيوم ومن هنا بدأت رحلتها الطويلة والعميقة في عالم الأدب . الحديث عن عالم هذه الشاعرة ليس بالأمر الهين, ان تحليل خطابها يحتاج الى وقت كاف من أجل أن نعرف بدقة كيف تفكر هذه الشاعرة وكيف تتساءل . المسألة ليست أنها كانت ضبابية أو أنها شخصية مأساوية ولا وجوديتها, ليس كل هذا فقط . كارين كما لو أنها كانت تضع عينيها بعينيّ الله وتخاطبه مباشرة, أو ربما شيء آخر, لا أعرف  . شاعرة كانت قلقة ولم تترك وراءها غير الأسئلة .

كتابها الأخير كان رواية المصل ولها عنوان فرعي وهو ( رواية من عام 2000 ) التي صدرت عام 1940 وهذا قبل وفاتها بعام وقد تُرجمت الى لغات عدة لأهميتها, رواية سوداوية تستشرف المستقبل وتبرز كيف تصبح طموحات الفرد متعلقة كلها بانتمائه الى السلطة . مجتمع بأكمله تحت أنظار السلطة تتحكم به كما تشاء, مجتمع موجود ليخاف وليذعن لكل شيء تفكر به السياسة وتمرره له ما ترغب من جوهرها العفن . موضوعة هذه الرواية مستوحاة من زيارة كارين الى الاتحاد السوفيتي والمانيا قبل الحرب العالمية الثانية وما رأته هناك من بشاعة .

يجدر الاشارة هنا أن لكارين وروايتها على جورج أورويل مؤلف راوية 1984 أسبقية  في تناول هكذا فكرة ومناقشتها بعمق .

 

 النصوص 


 

نحن أطفال مُرهقين

 

على الشاطئ الحالك ينزلق شراع أبيض وحيد

يشبه طائراً مرهقا, يبحث عن مأوى لينام

وعاليا في أعماق السماء قمر مُشع

يمضي على مضض

كما لو أنه انسان على وشك النوم

والآن سنعود نحن الصغار المُتعبين

الى منزلنا الذي يقبع

على مقربة منا

ونمحو الأفكار من جباهنا

والجرائم من أيدينا

ثم نتركها تشحب كدمى منسية

سنتركها لحقيقتها

ونتكأ بثقة أطفال عميان

على رُكب أم مجهولة . 

 ***


 

عيوننا هي مصائرنا

 

عيوننا هي مصائرنا .

ستكونين بمفردكِ أيتها العيون البائسة

بين النجوم التي ترفض الرأفة بنا

بطريقة دنيوية حية

لو أنني رأيتُ أقل

لو أنني فكرتُ بأفكار أخرى

ولم أسعَ لأكون منبوذة

لنال الصالحون الجنة .

 

مقدسة, مقدسة, مقدسة

هي الحقيقة, الحقيقة المُروَعة

أعرفها وأنحني أمامها

فهي مُحقة في كل شيء

لكن اللحم والدم يختلجان

بينما الأحياء يلتمسون الحياة

دفء هي رفقة الناس

وثلج هو ازداءهم .

 

أهيم مُتضرعة

عبر أعوام جليدية مُضيئة

أبحث عن من يعينني

للوقوف في قبري

مُتذكرة بحنان حارق

عيونا نائية

وكذلك المفقودين في بحر الوحدة

ولكن حينذاك لن أتمكن من النواح

بل يتعيّن عليّ أن أكون ممتنة

لكل الذين شاركتُ معهم

كل ما أعرف وما أتذكر

وخلال الظلام أتلمس المنزل والرفاق

أيتها العيون الحبيبة

يا اختي

كان لك حياة

وسيكون لك وجود .

 ***

 

في صمت المساء

 

أشعرُ كما لو أنها تعيش

حياة حقيقية

تتنفس بالجوار

في مساءات لا تعصف فيها الرياح

ربما ستكشف عن نفسها

حينما لا يتوقع أحد ذلك .

 

تزحف الشمس فوق العشب والصخور

وفي مرحها الصامت

تتوارى روح الحياة

لم تكن قريبة أبدا هكذا

كهذه الليلة .

 ***


في قاع الأشياء

 

قرأتُ في الجريدة

قد مات أحدهم, شخص ما أعرف اسمه

لقد عاش مثلي وكتب كتباً عديدة كما فعلتُ ثم أصبح عجوزاً

 أما الآن فهو ميت

تخيل أنك ستموت الآن وتترك كل شيء وراءك

الهلع, الرعب والوحدة, وشعور بالذنب لا يعرف الصفح

لكن ثمة عدالة عظمى مخفية في الدرك الأسفل من كل شيء

وكل ما لدينا هو نعمة نتطلع إليها

هدية محال أن يسرقها أحد . 

***

 

وداع

 

أردتُ ايقاظك من أجل عري

يشبه ليلة ربيعية عارية

حيث النجوم تطفو في السماء

والأرض تتقدُّ تحت الثلج الذائب

أردت أن اراك تغرق لمرة واحدة

في الفوضى الخلاقة للظلام

أردت أن أرى عينيك مشرعتان

ومستعدتان للسُكنى

أردت أن أرى يديك كزهرتين متفتحتين

فارغتين وجديدتين

تنتظران شيئا ما

 

لكنك رحلت ولم أمنحك أي شيء

من كل ذلك

وقد كان محال عليّ الوصول الى هناك

حيث تقبع حقيقتك عارية

رحلت ولم تأخذ أي شيء مني

تركتني للزيمة

 

وها أنا أتذكر وداعا آخر

كما لو أننا طُردنا من بوتقة كجسد واحد

وحين افترقنا, لم نكن نعرف أي منا أنا

وأي منا أنت

لكنك كوعاء زجاجي سقطت من يدي

مستسلما كالشيء الميت والقابل للتغيير

 لم تترك أي ذكرى

كالبصمات الرقيقة التي تُمحى بالماء

أردت ايقاظك على انعدام الشكل

كأنك لهب يرفرف لا شكل له

كمن يجد أخيراً صورته الحية

كمن يجد هزيمته .

 

 

 

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قطرةُ حبر تتدلى من السماء \ نصوص الشاعر السويدي : لارس فورسيل \ ترجمة عن السويدية علي ذرب

نصوص فكتور يوهانسون .. طائر ينام في مظلة \ ترجمة عن السويدية علي ذرب

نصوص الشاعر السويدي بيتر نيبيرغ / ترجمة عن السويدية علي ذرب