قطرةُ حبر تتدلى من السماء \ نصوص الشاعر السويدي : لارس فورسيل \ ترجمة عن السويدية علي ذرب


 
 



الموت في باريس

 

انه في يوم الجُمعة، الساعة الحادية عشرة مساءً . حالما هبطتُ من غرفتي في الفندق، كان الشارع فارغاً ومهجوراً، اذا ما قارنّا ذلك بالمعايير الباريسية. وبالطبع كانت تمر سيارة بين الحين والآخر، تمر درّاجة نارية، بينما الآخرين يفضلون تلقي الموت عند أسوار البلاد، خلال عيد العنصرة وحده، تناول حوالي مائتي شخص الطعام في عطلة نهاية الاسبوع  . أترجل نحو الأضواء المتلألئة في نهاية الجادة، أضواء كل من دوم وسيليكت ولاروتوند ولو كوزموس, حيث الحياة هناك لا تزال مستيقظة .

وعلى مبعدة خمسون متراً من الفندق، يستلقي رجل على ظهره، فوق إحدى مقاعد الطريق غير المريحة والتي تمدُّ على كلا الجانبين جناحين من الخشب، مع حافة سُفلية كبيرة وعريضة بعض الشيء ومسند من الحديد . إحدى يديه تستلقي فوق صدره، بينما يده الأخرى مُلقاة فوق الاسفلت. عندما عدتُ بعد نصف ساعة كان لا يزال يضطجع في مكانه ولكن هذه المرة ثمة من يتفقده، رجل ذو شعر أسود قصير ونظّارة ذو حواف سميكة، وبينما يرفع تلك اليد الملقاة على الاسفلت ويتفقد نبضه :

_ هل تقيم في ذلك الفندق يا سيدي ؟

_ نعم

_ هل يمكنك أن تطلب منهم الاتصال بالبوليس ؟

هرعتُ الى داخل الفندق وطلبت من الرجل المناوب الاتصال، ثم عدتُ

_ هل مات ؟

_ لا يا سيدي ، قلبه ما زال ينبض ، مرة كل دقيقة

وبينما نقف هناك، غريبان عن بعضنا البعض وغير مبالين بالرجل الذي يحتضر أمامنا ولكن ليس بالموت ، تمر سيارة بجانبنا وتُزّمر، وزوجان يسيران على الطريق، هي ترتدي فستاناً زهرياً طويلاً ذو صدرية حمراء، بينما هو يرتدي بدلة رمادية مع ربطة عنق مخملية ، يهمسان ويضحكان بينما يتقدمان نحونا ، ربما كانا في طريقهما الى (Jimmys ) وهو ناد ليلي ينحني فوق الشارع ، يتوقفان .

- هل هو ميت ؟

- لا، قلبه ينبض مرة كل دقيقة .

يصمتان وينتظران معنا، ثم يفلت كل منهما يد الآخر .

ربما هذه هي المرة الأولى التي يجلب فيها ذلك الرجل الأنظار لنفسه، ها هو يشع طمأنينة، بعدما أحاط نفسه بدائرة قطرها ثلاثة أمتار من الهدوء والاحترام. من الممكن أن يكون بعمر الثلاثين ، ذو شعر أشقر، يرتدي ثياباً جيدة على طريقة بعض البوهيميين المزيفين,  حذائيه المصنوعتين من الجلد السويدي كانتا تشيران باتجاهين مختلفين كما لو أنهما حرف ( V) كبير، أما لون الجفنين فهو أسود داكن .

فجأة ينتفض، كما لو أن ذبابة شارفت على الموت, بدأت ترفرف بداخله، والأصابع التي تستقر فوق صدره تخدش بشكل جنوني . أربع دراجات نارية يقودها رجال شرطة يرتدون سترات جلدية سوداء وخوذات بيضاء, تتقدم من الظلام، بهدوء تام.

قد تكون المحركات متوقفة عن العمل، على كل حال لم نسمع لها صوت . رجال الشرطة أحاطونا بصمت، واحد منهم يتصل بسيارة النجدة ، بدا ذلك كما لو أننا في فيلم صامت ، الشيء الوحيد الذي كان صوته مسموعاً هو الضجيج الذي أصدره مايكروفون إحدى الدراجات النارية الثقيلة التي كانت تنطلق منها مجموعة نداءات جديدة: لدينا حادث سيارة هنا، سطو مسلح هناك، مشاجرة هنا، وسكّير هناك .

تتقدم نحونا دورية الشرطة ثم تتوقف، وبينما الضوء الأزرق الذي يعلو سقف السيارة يدور ويدور، يخرج منها رئيس عمال أو ربما شرطي برتبة رقيب، ويبدأ بمصافحة رجال الشرطة الأربعة الآخرين، ثم تُفتح باب الاسعاف ويُخرجون منها نقالة، يُوضع الرجل في النقالة وتوضع يداه الرماديتان فوق صدره ومن ثم يُزجُّ به بعيداً . ولكن كان لدى الرقيب بعض الوقت لأن يُحرر احدى يديه من القفاز الأبيض ويضعها فوق جبين ذلك الرجل، يبدو أنها حركة مألوفة .

( شارينتون ) ، يتمتم ( الى المشرحة ) . ثم يستدير نحو الرجل القصير القامة ذو النظُارة سميكة الحواف: شكراً لك يا سيدي على مساعدتك ، ليلة سعيدة .

***


قصيدة 1

 

قل ما تشاء عن الالحاد والخيانة

فثمة شجرة صادقة تقف وسط العالم

جذورها مغروزة في جوف الأرض

 

وبومة ساكنة

تلمع على الشجرة

فوق أكثر الأغصان صلابة 

وبعينيها المدورتين الصفراوين

تنظر إلينا بحذر شديد

وتحت الشجرة يجلس إله

ينحت ناياً من القصب

ويحفر فيه ثقوباً لأصابعه  

فإذا ما نفخ فيه

تتطاير سهام رنانة

ليست من النوع القاتل

بل تلك التي تمنحنا الراحة والسلام

 

إنه الأمان

هو ما تشعر بحميميته

واذا ما استندت الى جذع الشجرة

تحت أنظار البومة

سوف تستعيد ثقتك وإيمانك

بكل شيء

رغم كل ما عشته وقرأته

عن القيامة والفناء

 

وكأن الشجرة تقف في قلبك

وهدير خافت في قمتها

والناي يصدح

وعيون البومة صفراء كالشمس .

***


قصيدة 2

 

١

يُقال أن وجوه من ماتوا

أو أولئك الذين رحلوا الى جهات بعيدة

تتقدم من الماضي ببطء

كما لو أنها تخرج من الضباب

 

هل يتذكر المرء شيئاً فشيئاً ملامح تلك الوجوه

هل يتذكر مرة بعد مرة

صلواتها، إيماءاتها ورعشاتها

ويتذكر الطريقة التي كان بها أصحابها

يُشعلون سجائرهم برعونة

فيحرقون شواربهم

 

لكن لا، هذا ليس صحيحاً

كل شيء معها له وجود

فالظلال أقوى حضوراً من الماضي

الظلال سابقة لعصرها

وفي أعماق ذلك الذي سقط في اللامبالاة

ومضى بقلب فارغ

تُوقظ حباً شرساً .

 

٢

لا أحد يتيه في الأرض

الا ووجد السبيل الى نفسه

 

ها هنا يتعرج طريقاً عُشبياً

بجذور غليظة زلقة

تعانق بعضها البعض

وتُصدر فحيحاً بينما تلتف حول نفسها

القمر الميت

قطرة حبر تتدلى من السماء

 

لكنك هناك حيثما تتعثر ثم تسقط

ينفجر لهب أصفر ، ويُشعلك

فتتطاير منك الجمرات من شدة الألم

إذ تُصبح منارة للعابرين

الذين يموتون من تعبهم

قبل أن تتفحم بالكامل !

***

 

قصيدة 3

 

أعلم أنكَ حزين

حزين حتى الموت

وترغب فقط بالرحيل

 

رغم أن الصباح فوق بحيرة مالارين

دائماً ما يكون مشرقاً

والشمس تضيء المنازل القريبة من الشاطئ

والجليد يلمع كالمرآة

 

من كان يغني

تتساءل : من كان يغني ؟

وأجيب : سوف نرحل بعيداً

ولكن دعنا نسير بخطوات بطيئة

مونتريال أخذت مني الأمل

بروكلين أخذت مني ايماني

وفي سالزبورغ في زيمبابوي رأيتُ

حيوانات كالبشر

وسكاكين الجزّارين تُقّطع لحم الناس

 

ولكن وسط الصمت كان ثمة من يغني

بقوة، لا بخجل

لماذا وكيف ؟

وبينما تتساءل : من كان يغني ؟

 يُصبح سؤالك اجابة

 

أنا حزين مثلك

وأريد الذهاب بعيداً

لكن دعنا نمضي بخطوات بطيئة

رأسي فارغ،

أنا جبان مثلك

ولكن ما زال لدينا بعض الوقت

 

أحدهم شرع بالغناء

ولكن من كان يغني ؟

تلك الأغنية الرائعة .

  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نصوص فكتور يوهانسون .. طائر ينام في مظلة \ ترجمة عن السويدية علي ذرب

نصوص الشاعر السويدي بيتر نيبيرغ / ترجمة عن السويدية علي ذرب